فصل: تفسير الآيات (59- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)}.
قوله تعالى: {الذين زَعَمْتُم}: مفعولا الزُّعم محذوفان لفَهْمِ المعنى، أي: زَعَمْتوهم آلهةً، وحَذْفُهما اختصارًا جائزٌ، واقتصارًا فيه خلافٌ.
قوله تعالى: {أولئك الذين يَدْعُونَ}:
{أولئك} مبتدأٌ، وفي خبره وجهان، أظهرُهما: أنه الجملةُ مِنْ {يبتغون} ويكون الموصولُ نعتًا أو بيانًا أو بدلًا، والمرادُ باسم الإِشارة الأنبياءُ الذين عُبِدوا مِنْ دون الله. والمرادُ بالواوِ العبَّادُ لهم، ويكون العائدُ على {الذين} محذوفًا، والمعنى: أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُونهم المشركون لكَشْفِ ضُرِّهم- أو يَدْعُونهم آلهةً، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان- يَبْتَغون.
ويجوز أن يكونَ المرادُ بالواوِ ما أُريد بأولئك، أي: أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُون ربَّهم أو الناسَ إلى الهدى يَبْتغون، فمفعولُ {يَدْعُون} محذوف.
والثاني: أن الخبرَ نفسُ الموصولِ، و{يَبْتَغُون} على هذا حالٌ مِنْ فاعل {يَدْعُون} أو بدلٌ منه. وقرأ العامَّةُ {يَدْعُون} بالغيبِ، وقد تقدَّم الخلافُ في الواو: هل تعودُ على الأنبياء أو على عابِدِيْهم. وزيد بن علي بالغَيْبة أيضًا، إلا أنه بناه للمفعول. وقتادةُ وابنُ مسعودٍ بتاء الخطاب. وهاتان القراءتان تقويَّان أن الواوَ للمشركين لا للأنبياءِ في قراءة العامَّة.
قوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في أيُّ هذه وجهان، أحدُهما: أنها استفهاميةٌ.
والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، وإنما كَثُرَ كلامُ المُعْرِبين فيها من حيث التقديرُ. فقال الزمخشري: وأيُّهم بدلٌ مِنْ واو {يَبْتغون} وأيُّ موصولةٌ، أي: يبتغي مَنْ هو أقربُ منهم وأَزْلَفُ، أو ضُمِّن [يَبْتَغُون] الوسيلةَ معنَى يَحْرِصُون، فكأنه قيل: يَحْرِصُون أيُّهم يكون أقربَ. قلت: فَجَعَلَها في الوجهِ الأولِ موصولةً، وصلتُها جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر، حُذِف المبتدأ وهو عائدُها، و{أَقْرَب} خبرُ {هو} واحتملت أيُّ حينئذٍ أن تكونَ مبنيةً، وهو الأكثرُ فيها، وأن تكونَ مُعْرَبةً، ولهذا موضعٌ هو أليقُ به في مريم. وفي الثاني جَعَلَها استفهاميةً بدليل أنه ضَمَّن الابتغاءَ معنى شيء يُعَلَّقُ وهو يَحْرُصون، فيكون {أيُّهم} مبتدأً و{أقرب} خبرَه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ يَحْرِص يتعدَّى بـ على قال تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} [النحل: 37] {أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96].
وقال أبو البقاء: {أيُّهم} مبتدأ، و{أقرب} خبرُه وهو استفهامٌ في موضع نصب بـ {يدْعُونَ}، ويجوز أن يكونَ {أيُّهم} بمعنى الذي، وهو بدلٌ مِنَ الضميرِ في {يَدْعُوْن}.
قال الشيخ: علًّق {يَدْعُون} وهو ليس فعلًا قلبيًا، وفي الثاني فَصَلَ بين الصلةِ ومعمولِها بالجملةِ الحاليةِ، ولا يَضُرُّ ذلك لأنها معمولةٌ للصِّلة. قلت: أمَّا كونُ {يَدْعُون} لا يُعَلِّق هو مذهبَ الجمهور.
وقال يونس: يجوز تعليقُ الأفعالِ مطلقًا، القلبيةِ وغيرِها. وأمَّا قوله: فَصَل بالجملة الحالية يعني بها {يَبْتَغُون} فَصَل بها بين {يَدْعون} الذي هو صلةُ {الذين} وبين معمولِه وهو {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} لأنه مُعَلَّقٌ عنه كما عَرَفْتَه، إلا أنَّ الشيخَ لم يتقدَّم في كلامِه إعراب {يبتغون} حالًا، بل لم يُعْرِبْها إلا خبرًا للموصول، وهذا قريب.
وجعل أبو البقاء أيًَّا الموصولة بدلًا من واو {يَدْعُون} ولم أرَ أحدًا وافقه على ذلك، بل كلُّهم يجعلونها مِنْ واو {يَبْتَغون} وهو الظاهر.
وقال الحوفي: {أَيُّهُمْ أَقْرَب} ابتداءٌ وخبر، والمعنى: ينظرون أيُّهم أقربُ فيتوسَّلون به، ويجوز أن يكونَ {أَيُّهُمْ أَقْرَب} بدلًا من واو {يَبْتغون}. قلت: فقد أضمر فعلًا معلَّقًا وهو ينظرون، فإن كان مِنْ نَظَرِ البصَرِ تَعَدَّى بـ {إلى}، وإن كان مِنْ نظَرِ الفِكْرِ تعدَّى بـ في، فعلى التقديرين الجملةُ الاستفهامية في موضعِ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ، وهذا إضمارُ ما لا حاجةَ إليه.
وقال ابن عطية: و{أيُّهم} ابتداءٌ، و{أقرب} خبرُه، والتقدير: نَظَرُهم ووَكْدُهم أيُّهم أقربُ، ومنه قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه: فبات الناس يَدُوكون أيُّهم يُعطاها، أي: يتبارَوْن في القُرْبِ. قال الشيخ: فَجَعَل المحذوف نَظَرُهم ووَكْدُهم وهذا مبتدأ، فإن جعلْتَ {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في موضعِ نصبٍ بـنَظَرُهم بقي المبتدأ بلا خبر، فَيَحْتاج إلى إضمار خبر، وإن جعلت {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [هو] الخبر لم يَصِحَّ؛ لأنَّ نظرَهم ليس هو أيهم أقرب، وإنْ جَعَلْتَ التقدير: نَظَرُهم في أيهم أقربُ، أي: كائنٌ أو حاصلٌ، لم يَصِحَّ ذلك؛ لأنَّ كائنًا وحاصلًا ليس ممَّا يُعَلِّق.
قلت: فقد تحصَّل في الآيةِ الكريمةِ ستةُ أوجهٍ، أربعةٌ حالَ جَعْلِ أيّ استفهامًا. الأولُ أنها مُعَلِّقةٌ للوسيلة كما قرَّره الزمخشري. الثاني: أنها مُعَلَّقَةٌ ل {يَدْعُون} كما قاله أبو البقاء. الثالث: أنها مُعَلِّقَةٌ ل يَنْظرون مقدَّرًا، كما قاله الحوفيُّ. الرابع: أنها مُعَلَّقةٌ ل نَظَرُهُمْ كما قدَّره ابن عطية. واثنان حالَ جَعْلِها موصولةً، الأول: البدلُ مِنْ واو {يَدْعُون} كما قاله أبو البقاء. الثاني: أنها بدلٌ مِنْ واو {يَبْتَغون} كما قاله الجمهور.
قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ}:
{إن} نافيةٌ و{مِنْ} مزيدةٌ في المبتدأ لاستغراقِ الجنس. وقال ابنُ عطية: هي لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ مِنْ وجهين، أحدهما قال الشيخ: لأنَّ التي للبيان لابد أَنْ يتقدَّمَها مبهمٌ ما، تُفَسّره كقوله: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2]، وهنا لم يتقدَّم شيءٌ مبهمٌ. ثم قال ولعلَّ قولَه لبيانِ الجنسِ من الناسخِ، ويكون هو قد قال: لاستغراقِ الجنس، ألا ترى أنه قال بعد ذلك: وقيل: المرادُ الخصوصُ.
وخبرُ المبتدأ الجملةُ المحصورةُ مِنْ قولِه: {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا}.
والثاني: أنَّ شَرْطَ ذلك أَنْ يَسْبِقَها مُحَلَّى بأل الجنسية، وأن يَقَعَ موقعَها الذي كقولِه: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30]. اهـ.

.تفسير الآيات (59- 60):

قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)}.

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
ولما كانت كفار قريش تكرر اقتراحهم للآيات بعد أن اشتد أذاهم، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لشدة حرصه على إيمان كل أحد فكيف بقومه العرب فكيف ببني عمه منهم- ربما أحب أن الله تعالى يجيبهم إلى مقترحهم طمعًا في إيمانهم وإراحة له ولأتباعه من أذاهم، وكان ما رأوه من آية الإسراء أمرًا باهرًا ثم لم يؤمنوا، بل ارتد بعض من كان آمن منهم، كان المقام في قوة اقتضائه أن يقال بعد ذكر آية العذاب: ما لهم لا يعجل عذابهم أو يجابون إلى مقترحاتهم ليقضى الأمر؟ فيقال في الجواب: ما منعنا من تعجيل عذابهم إلا أنا ضربنا لهم أجلًا لابد من بلوغه {وما منعنا} أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ولا يمنعها مانع {أن نرسل} أي إرسالًا يظهر عظمتنا على وجه العموم {بالآيات} أي التي اقترحتها قريش، فكان كأنه لا آيات عندهم سواها {إلا} علمنا في عالم الشهادة بما وقع من {أن كذب بها} أي المقترحات {الأولون} وعلمنا في عالم الغيب أن هؤلاء مثل الأولين في أن الشقي منهم لا يؤمن بالمقترحات كما لم يؤمن بغيرها، وأنه يقول فيها ما قال في غيرها من أنها سحر ونحو هذا، والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها، فكم أجبنا أمة إلى مقترحها فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفرًا، فأخذناهم لأن سنتنا جرت أنا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها، ونحن قد قضينا برحمة هذه الأمة وتشريفها على الأمم السالفة بعدم استئصالها، لما يخرج من أصلاب كفرتها من خلص عبادنا، والمنع هنا مبالغة مراد بها نفي إجابتهم إلى مقترحاتهم، ولا يجوز أخذه على ظاهره، لأنه وجود ما يتعذر معه وقوع الفعل من القادر عليه، ثم عطف على ما دل عليه المقام وهو: فكم أجبنا- إلى آخر ما ذكرته، قوله تعالى: {وءاتينا} أي بما لنا من العزة الباهرة {ثمود الناقة} حال كونها {مبصرة} أي مضيئة، جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها {فظلموا بها} أي فوقعوا في الظلم الذي هو كالظلام بسببها، بأن لم يؤمنوا ولم يخافوا عاقبتها، وخص آية ثمود بالذكر تحذيرًا بسبب أنهم عرب اقترحوا ما كان سببًا لاستئصالهم، ولأن لهم من علمها وعلم مساكنهم بقربها إليهم وكونها في بلادهم ما ليس لهم من علم غيرها، وخص الناقة لأنها حيوان أخرجه من حجر، والمقام لإثبات القدرة على الإعادة ولو كانوا حجارة أو حديدًا، ودل على سفههم في كلا الأمرين على طريق النشر المشوش بذكر داود عليه السلام إشارة إلى الحديد، والناقة إشارة إلى الحجارة، فلله هذه الإشارة ما أدقها! وهذه العبارة ما أجلها وأحقها! {وما نرسل} أي بما لنا من الجلالة التي هي بحيث تذوب لها الجبال {بالآيات} أي المقترحات وغيرها {إلا تخويفًا} أي للمرسل إليهم بها، فإن خافوا نجوا وإلا هلكوا فإذا كشف الأمر لكم في عالم الشهادة عن أنهم لا يخافونها وفق ما كان عندنا في عالم الغيب، علم أنه لا فائدة لكم فيها.
ولما كان التقدير للتعريف بمطابقة الخبر الخبر: اذكر أنا قلنا لك {إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل ءاية} [يونس: 96] واذكر ما وقع من ذلك ماضيًا من آيات الأولين وحالًا من قصة الإسراء، عطف عليه قوله تعالى: {وإذ} أي واذكر إذ {قلنا} على ما لنا من العظمة المحيطة {لك إن ربك} المتفضل بالإحسان إليك بالرفق بأمتك {أحاط بالناس} علمًا وقدرة، تجد ذلك إذا طبقت بعضه على بعض أمرًا سويًا حذو القذة لا تفاوت فيه، واعلم أنه مانعك منهم وحائطك ومظهر دينك كما وعدك؛ ثم عطف على {وما نرسل} قوله تعالى: {وما جعلنا} أي بما لنا من القوة الباهرة التي لها الغنى المطلق {الرءيا التي أريناك} أي بتلك العظمة التي شاهدتها ليلة الإسراء {إلا فتنة} أي امتحانًا واختبارًا {للناس} ليتبين بذلك في عالم الشهادة المتقي المحسن والجاهل المسيء كما هو عندنا في عالم الغيب، فنقيم بها عليهم الحجة، لا ليؤمن أحد من حقت عليهم الكلمة ولا لنزداد نحن علمًا بسرائرهم، ولا شك في أن قصة الإسراء إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات العلى كان يقظة لا منامًا بالدليل القطعي المتواتر من تكذيب من كذب وارتداد من ارتد، وهذا مذهب الجمهور وأهل السنة والجماعة، وقد ورد في صحته ما لا يحصى من الأخبار- هذا النقل، وأما الإمكان العقلي فثابت غير محتاج إلى بيان، فإن كل ذرة من ذرات الموجودات فيها من العجائب والغرائب والدقائق والرقائق ما يتحير فيه العقول، لكن لما كان على وفق العادة ألفته الطباع، فلم تنكره الأبصار ولا الأسماع، وأما مثل هذا فلما كان على خلاف العادة استنكره ضعفاء العقول الذين لا يتجاوز فهمهم المحسوسات، على ما ألفوا من العادات، وأما أولو الألباب الذين سلموا من نزعات الشيطان ووساوس العادة، ونظروا بأعين البصائر إلى آثار رحمة الله في صنع المصنوعات وإحداث المحدثات في الملك والملكوت، والشهادة والغيب، والخلق والأمر، فاعترفوا به، وأنه من عظيم الآيات، وبدائع الدلائل النيرات، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى: {فتنة} لأنه لو كان رؤيا منام لم يكن بحيث يستبعده أحد فلم يكن فتنة، ولعله إنما سماه رؤيا- وهي للمنام- على وجه التشبيه والاستعارة، لما فيه من الخوارق التي هي بالمنام أليق في مجاري العادات، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس- رضى الله عنهما- {وما جعلنا الرءيا التي أريناك} الآية، قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري به.
ولما كان كل ما خفي سببه وخرج عن العادة فتنة يعلم به في طبعه الحق ومن في طبعه الباطل، ومن هو سليم الفطرة ومن هو معكوسها، وكان قد أخبر أن شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم، وكان ذلك في غاية الغرابة، ضمه إلى الإسراء في ذلك فقال تعالى: {والشجرة} عطفًا على الرؤيا {الملعونة في القرءان} بكونها ضارة، والعرب تسمي كل ضار ملعونًا، وبكونها في دار اللعنة، وكل من له عقل يريد بعدها عنه، وهي كما رواه البخاري في التفسير عن ابن عباس- رضى الله عنهما- شجرة الزقوم جعلناها أيضًا فتنة للناس نقيم بها عليهم الحجة في الكفر والإيمان، فنثبتهم أي من أردنا إيمانه منهم بالأول وهو الإسراء {ونخوفهم} بالثاني وأمثاله {فما يزيدهم} أي الكافرين منهم التخويف حال التخويف، فما بعده من أزمنة الاستقبال أجدر بالزيادة {إلا طغيانًا} أي تجاوزًا للحد هو في غاية العظم {كبيرًا} فيقولون في الأول ما تقدم في أول السورة، وفي الثاني: إن محمدًا يقول: إن وقود النار الناس والحجارة، ثم يقول: إن فيها شجرًا، قد علمتم أن النار تحرق الشجر، ولم يقولوا ما هم أعلم الناس به من أن الذي جعل لهم من الشجر الأخضر نارًا قادر على أن يجعل في النار شجرًا، ومن أنسب الأشياء استحضارًا هنا ما ذكره العلامة شيخ مشايخنا زين الدين أبو بكر بن الحسين المراغي بمعجم العين المدني في تأريخ المدينة الشريفة في أوائل الباب الرابع في ذكر الأودية فإنه قال: وادي الشظاة- أي بمعجمتين مفتوحتين- يأتي من شرقي المدينة من أماكن بعيدة عنها إلى أن يصل السد الذي أحدثته نار الحرة التي ظهرت في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة- يعني: وهي المشار إليها بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى» قال: وكان ظهورها من واد يقال به أحيليين في الحرة الشرقية، وصارت من مخرجها إلى جهة الشمال مدة ثلاثة أشهر تدب دبيب النمل، تأكل ما مرت عليه من جبل وحجر ولا تأكل الشجر، فلا تمر على شيء من ذلك إلا صار سدًا لا مسلك لإنسان فيه ولا دابة إلى منتهى الحرة من جهة الشمال- فذكر القصة وهي غريبة، وأسند فيها عن المطري فيما يتعلق بعدم أذاها للخشب. اهـ.